["كتب" هي سلسلة تستضيف "جدلية" فيها الكتاب في حوار حول أعمالهم الجديدة، نرفقه بمقاطع من الكتاب]
عصام الخفاجي، ولادات متعسّرة: العبور إلى الحداثة في أوربا والمشرق
المركز القومي للترجمة، ٢٠١٣
جدلية: ماهي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
عصام الخفاجي: ثمة عمليات تاريخية متشابهة (وليست متطابقة) سياسية واقتصادية واجتماعية تتشارك فيها كل المجتمعات السائرة نحو الحداثة. العمليات التاريخية المتشابهة لا تقود بالضرورة إلى نتائج متشابهة. من هنا لم يكن الفصل النهائي في الكتاب مجرد تلخيص أو خاتمة تقليدية، بل أنه أثار السؤال التالي وحاول تقديم إجابة عليه: إن كانت عمليات العبور إلى الحداثة متشابهة، وإن كان المشرق عرف التحولات التي عرفتها أوربا في فترات انتقالها إلى الحداثة، فلماذا انتهت كل من المنطقتين إلى مآلات شديدة الإختلاف؟ إن السيرورات التاريخية ليست قوانين جبرية. والتاريخ ليس غائياً، بمعنى أن لا ثمة حتمية تدفعه إلى نتيجة نهائية محددة ينتهي عندها التاريخ هي روح الأمة المتمثلة بالدولة (هيغل)، الحرية الليبرالية (فوكوياما)، المجتمع الشيوعي اللاطبقي (ماركس)، العالم المسلم (ألوف المفكرين الإسلاميين). أزعم أني أضفت جديداً إلى نظرية/ نظريات التحول الإجتماعي وتركيب النظم الإقتصادية الاجتماعية. فقد أفرزت حيّزاً كبيراً في الكتاب لا لدراسة طبيعة السلطة السياسية أو الثورات أو التحولات المجتمعية بل لدراسة الكيفية التي يرى فيها الناس تلك البنى والعمليات أثناء حدوثها ومحاولة تفسير أشكال الوعي المتوافقة معها. هل يعتبر الناس السلطة (وهي هنا أوسع من معنى الدولة فهي تشمل شيخ القبيلة والزعيم المحلي والحاكم) جسماً مستغِلاً مفروضاً عليهم عبر وسائل القسر؟ أم هيئة تؤدي لهم خدمات ضرورية؟ هل ينخرط الناس في الثورات من موقع المؤيد أو المعادي لها وهم يعون طابعها الإجتماعي؟ كيف ينشأ نظام اجتماعي جديد من خلال صراعات بشر لايرون في صراعاتهم غير دفاع عن دينهم أو طائفتهم أو مدنهم؟ كيف ينظر الناس إلى تراتباتهم الدينية و/ أو القومية في فترات ماقبل الحداثة وكيف يفسرّونها؟ أخيراً، حاولت بناء صياغتي النظرية مستندا إلى كم هائل من الدراسات الوضعية. قد توحي هذه الجملة للقارئ ألا جديد في هذا الجانب. فدعوني أتناول هذه النقطة بتفصيل.
أشرت في التمهيد للكتاب إلى أن عدداً كبيراً من الدارسين أنتج دراسات متخصصة قيّمة لاحصر لها أغنت معارفنا حول بلدان، مناطق، أقوام، قبائل، أتباع ديانات، مدن، أحياء، طبقات اجتماعية وغير ذلك كثير. لا أقصد أن البحث في هذه الحقول أُشبع، فالعقل الدوغمائي وحده هو الذي يرى البحث في أي من فروع المعرفة (والفنون) مكتملاً. لكن هذا الدراسات وضعت في أيدينا مادة أولّية غنية تساعد على التحليل والتفسير. في الوقت نفسه، تحققت إنجازات علمية كبيرة في تطوير أدوات التحليل النظري، صياغة نظريات جديدة، تقديم تفسيرات مبتكرة عن الدولة، المجتمع، الأيديولوجيا، الإقتصاد، التاريخ والعلاقات المتبادلة بينها. وكل هذا أرسى أساس نشوء الدراسات العابرة للتخصص interdisplenary ، بل إنه أملى نشوءه.
وأقول، بتواضع، إن قلة من الدراسات نجحت في الجمع الصارم بين المعطيات الوضعية الجديدة والأدوات النظرية الجديدة. ثمة دارسون قدّموا كشوفهم الوضعية من دون ادّعاء بالسعي لتفسيرها. وثمة من أنجزوا تلك الدراسات معلنية صراحة ازدراءهم "للمنظّرين". وثمة من حملوا مسبقا أدوات نظرية ديناصورية فكيّفوا نتاجهم الوضعي الذي ظل قيّما بما يتلاءم قسريا مع تلك التفسيرات والأدوات.
على الضفة المقابلة، واجهنا، ولا نزال نواجه، التنظير الهائم المفتقد إلى المعطيات الوضعية. وهذا في رأيي أخطر من المصفوفة السابقة. قد يتشابه هذا النوع من التنظير مع من وصفتهم حاملين للأدوات النظرية الديناصورية، مع فارق يتمثّل في ادّعاء الأوائل تقديم تفسيرات جديدة. فالتنظير الهائم قلّما خلا من معطيات وضعية، لكنه لايجد بأسا من الأشارة إلى واقعة أو معطى تاريخي يعود إلى قرون أو عقود سابقة، أو تزيين نصّه بجداول وأرقام تعود إلى بلد أو منطقة محددة، لكي يمطّ تلك المعطيات خارج سياقها الزماني و/ أو المكاني.
سيوجه القارئ اتهّاماً لي: لكنّك مططت وقائعك ومعطياتك أيضاً. وجوابي هو أنني لم أستخدم واقعة واحدة تعود إلى القرون الوسطى، على سبيل المثال، لكي أسقطها على فترة العبور إلى الحداثة، وحاولت ألاّ أسقط في فخ البحث القسري عن تطابق مزعوم في المعطيات الوضعية لكي أبرر تفسيري. ولم ألجأ إلى التعميم، وهو أساس الصياغة النظرية القادرة على إضفاء معنى تفسيري للعمليات التاريخية، ألا بعد أن جرّدت تلك العمليات من خصائصها المحلية لكي أجد ما هو مشترك بينها. من هنا أشرت، على سبيل المثال، إلى اختلاف تشكل الفضاء الوطني في الحضارتين النهريتين في المشرق، أي مصر والعراق، عن بلاد الشام. وبينت في الوقت نفسه أن عمليات الإنتقال إلى الحداثة تتشابه، ولاتتطابق، في ما اعتدنا على اعتباره كتلة صمّاء أسميناها أوربا. فالشكل الذي تتخذه عملية التحول في دولة حديثة التكوين كألمانيا، يتلون بخصائص غير تلك التي تتميز بها عمليات التحول في الإمبراطوريات كالنمساوية- الهنغارية. ولابد أن يترك غياب الملكية الخاصة للأرض في السويد بصماته...إلخ.
لماذا قلتُ إن التنظير الهائم أشد خطراً من الدراسات الوضعية التي لاتقدم، أو لاتدّعي أنها تقدّم، تفسيرا عاما للعمليات التاريخية؟ لأن هذا الضرب من التمارين الذهنية ينطوي، ولابد أن ينطوي، على قدر عال من التبسيط الذي يستسيغه القارئ. وينطوي التبسيط بدوره على تضليل، لا بمعنى التضليل المخطط له مسبقا من جانب الكاتب، بل بمعنى أن منظور الكاتب نفسه متحدد بهذا الإطار المفاهيمي التبسيطي. ولعل أهم أشكال التبسيط المضلّل هي تلك القائمة على ثنائيات مريحة للقارئ (وللكاتب) لأنها تعفي الإثنين من جهد تفحّص الظلال القائمة بين الأسود والأبيض، بل وتعفيهما معا من التثبّت من وجود لونين أحدهما أبيض والثاني أسود. أكثر من هذا فإن تلك الثنائيات ترفع مشاهداتنا اليومية إلى مصاف المقولات النظرية فتطمئن القارئ بأنه تمكّن أخيرا من القبض على الحقيقة. ولهذا السبب بالذات نرى أن معظم الحركات السياسية الشعبوية تتلقف وتنتج هذا النوع من التأويلات. لنتأمل في الأمثلة البارزة التالية: عصر الجاهلية/ عصر الإسلام، المركز (الدول المتقدمة)/ المحيط (المتخلفة)، الإستعمار/ الدول التابعة، البداوة/ الحضارة.
إنها ثنائيات مضللة لأنها تختزل تاريخا بشريا يمتد عشرات ألوف السنين بضربة واحدة لتصفه بالجاهلية وتحيل زمنا لايمثّل إلا نتفة من هذا التاريخ إلى نور مشرق. وفي حالة نظرية التبعية يتم طمس التباينات بين رواندا ومصر والهند، مثلا، في حالة المركز والمحيط وعلاقات القوى وأشكال تشابكها المتباينة مع هذا المركز المزعوم. وهي تزيح مسؤولية التخلف عن كواهلنا لأن "الإستعمار أبقانا مصدّرين للمواد الأولية" فتعطّل البحث المتأني عن الكيفية التي تحولت عبرها منطقة مستَعمرة أخرى من مصدّر للتبغ والقطن الخام إلى أكثر البلدان تقدّما، أي الولايات المتحدة.
ج: كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
ع.خ: أترك الإجابة على هذا السؤال للقارئ والناقد. لا أعرف بكل صراحة ما الحقل الفكري الذي ينتمي إليه الكتاب أولاً. ولا أعرف بالتالي كيف سيتفاعل مع هذا الحقل! قيل عنه أنه عابر للحقول المختلفة بمعنى أنه يستخدم أدوات تحليل ومعطيات من عدة فروع معرفية. وقلت في مقدمة الكتاب أنه يسعى لتقديم صياغة جديدة (ولن أقول نظرية) لعملية العبور إلى الحداثة تتجاوز الرؤى الإقتصادوية والثقافوية بل تدمجها مع غيرها في جسم يسعى للخروج بتركيب جديد. إلى هذا، رفضت بشكل قاطع نظريات الخصوصية الإجتماعية التي ترى أن ما ينطبق على بيئة ما لاينطبق على غيرها. لقد عانينا (وعانت بلدان أوربية وآسيوية أخرى) من منهج التفسير، أو التبرير، القومي ونقطة بدئه القائلة بأن ماينطبق على "غيرنا" لاينطبق "علينا". منهج ينطوي ضمنا أو صراحة على القول بتفرد"نا". أتحدث هنا، بالطبع، عن السيرورات العامة لا عن الخصائص المحلية لهذا البلد او ذاك. أرى باختصار أن معالجة العمليات التاريخية ستكون قليلة القيمة العلمية إن لم تكن معالجات مقارنة تفرز ما هو محلي عما هو كوني. كيف سيتفاعل الكتاب مع حقله الفكري؟ أتمنى أنه سيحفّز الدارسين الجدد الذين لابد وأن ينقدوا هذا العمل ويتجاوزوه على نبذ الفهم الخطّي لعمليات تطور المجتمعات البشرية و/ أو تناول هذا الموضوع أو موضوعات أخرى مشابهة من زاوية أحادية.
ج: كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟ وما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية؟
ع.خ: ليس العبور إلى الحداثة وحده ولادة متعسّرة، إذ أن ولادة الكتاب نفسه لم تكن أقل تعسّراً. أظن أن هذا العمل كرّس، ولم يحدث، تحولات متعددة الصُعُد مررت بها على مدى أكثر من ثلاثين عاما جسّدتها في موضوعات العمل وطريقة مقاربتها ومعالجتها. أتمنى أن أظل أعيش فيما تبقى من العمر تحولات فكرية ، قد لاتكون بذلك القدر من الدرامية، وإلا سأشعر بالشيخوخة المميتة للعقل. لا أدري إن كان بوسعي تعداد كل التحولات أو عرضها بما لايوحي بتضخيم الذات. تبنيت الفكر الماركسي غير الشيوعي وأنا على مشارف العشرين. تبنيته عبر القراءات النظرية لاعبر التأثر بالحركة الشيوعية مع أني استفدت الكثير وعانيت الكثير بعد ارتباطي بتلك الحركة. قبل ذلك وبعده، وأظنني حتى الآن، ظللت متعدد الإهتمامات مهووسا بما هو جديد في الفكر والفن حتى خفت أن أصبح صحفيا، مع كامل احترامي لتلك المهنة. لكن هذا التعدد انعكس في مقاربتي لعمليات التحول إلى الحداثة متناولا أبعادها التاريخية والإقتصادية والآيديولوجية. أتمنى أن أكون وُفّقت، ولو قليلا، في تلك المقاربة.
بدأت حياتي "الفكرية"، وأستعمل هذاالتعبير هنا بمعنى أسخر فيه من نفسي، معتقدا أنني ناقد للرواية! مكّنتني بيئتنا المتصحرّة من أظل كذلك طوال ما يقرب من ثلاث سنوات. ففي بيئة ثقافية أكثر نضجا ستجد من يوقفك عند حدّك ويدفعك إلى تفريغ مالديك من شحنات فكرية في مجالات أنت أقدر على تناولها. أما عندنا، فيكفي أن تُسمّى "مثقفا" حتى يكون بوسعك أن تكتب ما تشاء في أي فرع تشاء فتتمتع باستجابة متلقّين متعطشين للقراءة. نشرت لي كبرى الصحف العراقية، وفيما بعد مجلة أدبية مصرية "نقداً" و"دراسات" لروايات نجيب محفوظ وغائب طعمة فرمان. ووصلت بي الوقاحة أن أكتب دراسة تافهة عن مسرح الغضب عند جون أوزبورن الذي كان إسما جديدا آنذاك. حين صرت ماركسياً، فقد عالم الأدب "ناقدا" نشر كتاباته بين عمر السادسة عشر والتاسعة عشر! لكنني ظللت مهووسا بالرواية. ويجد قارئ "ولادات متعسّرة" إحالات متعددة إلى الأعمال الروائية التي أصفها بأنها أكثر قدرة من أي تنظير على فهم التحوّلات الإجتماعية. كيف تفهم تشظي المدينة (وهو فصل من الكتاب) إن لم تتعرّف على كيفية رؤية أبناء القاهرة لأحيائهم كمدن منفصلة في ثلاثية نجيب محفوظ؟ كيف تفهم أن الهويات الدينية لا تطمس الإنقسامات الطبقية إن لم تقرأ "وداعا بابل" التي يتذكّر فيها نعيم قطّان أن أقدام اليهود الميسورين لم تكن تطأ أحياء فقرائهم؟ كيف تفهم منظور الحضري "الأصيل" إلى مدينته الغارقة في طوفان المهاجرين إن لم تقرأ "تنهيدة الموري الأخير" لسلمان رشدي؟
حين صرت ماركسياً قررت أن أقطع مع سنتين من دراستي للطب، لكن تلك الدراسة ساعدتني على مقارنة الأفعال غير المقصودة للأفراد المؤدية إلى تحولات لم يكونوا واعين بنتائجها مسبقا مع العلاقة بين الجهاز العصبي المركزي وبين الجهاز العصبي التلقائي. هكذا تتراكم معارف لم تكن تتوقع أن تقفز إلى عمل في العلوم الإجتماعية لم تخطط له آنذاك بالطبع. إذن صرت ماركسياً! لكن هذا كان بداية لتحولات أخرى أكثر عمقاً. إن كان ماركس حلل النظام الرأسمالي اقتصادياً، فلا بد أن أدرس الإقتصاد. ولحسن الحظ كان اهتمامي منصبّاً على دراسة ما يسمّى بالتنمية الإقتصادية (وهي ترجمة خاطئة لمفردة التطور) وهو الفرع المعني بدراسة التخلف وكيفية الخروج منه. كان جوهر هذا الموضوع منصبّاً على تصميم نماذج سياسات اقتصادية ونظريات "مثلى" تنهي حالة التخلف يجد القارئ عرضاً ومناقشة لأبرزها في الفصل الأخير من هذا الكتاب. لكنني توصّلت وأنا في دراستي الجامعية إلى أن التخّلف ليس إلا بنية قبل رأسمالية لابد أن تتخطاها البلدان "المتخلّفة" إلى نظام أرقى فهو ليس نقصا في متوسطات الدخل. لازلت مؤمنا بصحة هذه النظرة ولكن ظل سؤال يشغلني منذ ذلك الوقت. إن كان ماركس حلل بعبقرية طبيعة النظام الرأسمالي، فكيف حدث الإنتقال إلى هذا النظام؟ وأحسب أن هذا الشاغل يجيب جزئياً على سؤال "جدلية": كيف تبلورت فكرة الكتاب؟ كنت مثل كثيرين أنتمي إلى ماركسية فجّة مسيّسة. فجّة لأن حدود رؤيتي كانت ترى في التاريخ عملية تطور خطي تنتقل عبرها المجتمعات من سيادة نمط إنتاج إلى آخر، أو ما يُعرف بنظرية المراحل الخمس: مشاعية، عبودية، إقطاع، رأسمالية وصولا إلى الإشتراكية. ووفقا لهذه النظرة، ثمة برجوازية صاعدة تتصارع مع الإقطاعيين وتنتصر عليهم منتجة النظام الرأسمالي. وهي نظرة مسيّسة لأن رغبتنا، كجيل ثوري، في الوصول إلى تلك الجنة الإشتراكية دفعتنا إلى القول بأن طريق الرأسمالية مسدود فلابد من الإنتقال فورا إلى الإشتراكية. كان الخلاف مع المنظور الشيوعي يكمن في تبني الأخير لنظرية أثبتت أنها قاتلة تتحدث عن طريق "لارأسمالي" يتمثل في التحالف مع "البرجوازية الصغيرة" أي البعث والناصرية وصولا إلى تلك الجنة، فيما تبنيت مفهوم "رأسمالية الدولة" محاولا إثبات عجز تلك النظم عن القيام بذلك وتحللها المحتوم خلال فترة لاتتجاوز ربع القرن. أزعم بعد مضي دهر على ذلك أن فكرة تحلل تلك النظم خلال فترة قصيرة أثبتت صحتها، وأقر بأن فكرة عجزها عن الوصول إلى الإشتراكية كانت مسيّسة وخاطئة، بل أن النظرة المعيارية التي تعتبر أن مقياس حسن أو سوء أداء نظام ما يتمثل في قدرته على بناء الإشتراكية كانت مبنية على تفكير رغبي بعيد عن العلمية. ومع هذا فقد احتفت حركات ثورية عراقية ومصرية ولبنانية وسورية بهذا "الفتح" لأنه ينقض نظرية التطور اللارأسمالي ويدعو إلى اتباع طريق ثوري لبناء الإشتراكية لايعتمد على الأنظمة الحاكمة بل يعمل على إسقاطها. ظللت متبنياً لتلك النظرة التطورية الخطّية مع أني ترجمت إلى العربية مناظرة شهيرة حول الإنتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية وكتبت مقدمة طويلة لها أتساءل فيها إن كنا نمر بمرحلة انتقال إلى الرأسمالية أو إلى الإشتراكية. لكني ظللت متمسّكاً بالرؤية المبالغة في ثوريتها إلى منتصف الثمانينات حين توصّلت إلى أن النظم الإشتراكية نفسها ليست إشتراكية، بل أن الإشتراكية نفسها ليست مرحلة من مراحل التطور التاريخي، بل هي تراكم تدريجي يحصل داخل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة محققاً في كل خطوة مزيدا من العدالة، تحت ضغط الصراع الإجتماعي من دون شك. كانت هذه نظرة ماركس التي تلاعبت بها الإرادوية اللينينية، وهذا موضوع آخر تناولته ببعض التفصيل في الولادات المتعسّرة حين نقدت نظريات لوكاش- لينين التي وصفت كل وعي عمّالي لايرغب الشيوعيون به ك"وعي مزيّف". هي فكرة شبيهة بفكرة سيد قطب التي ترى الناس عائشين في عصر الجاهلية حتى يأتي المنقذون لكي يدلّوهم إلى الطريق الصحيح.
منذ منتصف الثمانينات مررت بتحوّلين أراهما كبيرين في مساري الفكري، بل والحياتي. أولهما أن من الخطأ ومن الخطورة بمكان اشتقاق نظرية في السياسة من الفلسفات الكبرى سواء كانت أديانا أو فلسفات وضعية مثل الماركسية (وقد كتبت دراسة تناولت هذا الأمر عام 1991)، لأن هذا يقود حتما، لاعرضا، إلى الإستبداد. ومن العبث والمغالطة تفسير الإستبداد بالإنحراف عن هذا المنهج أو ذاك. لا أزال أرى الماركسية المنهج الأكثر قدرة على تحليل الظواهر التاريخية والراهنة، حتى يوصلنا العلم إلى تفسير أكثر قدرة على ذلك (وهو ما أتوقعه). واؤكد هنا على المنهج لا على كل استنتاج توصل إليه نبي معصوم. من هنا يجد القارئ انتقادي لنظرية نشوء الدولة عند ماركس ولفكرة البروليتاريا الحاملة للتاريخ البشري القادم. وثاني تلك التحولات، إقتناعي بأنني لست اقتصادياً، بل منتمياً إلى العلوم الإجتماعية وهي غير علم الإجتماع، لأني بتّ اؤمن بأن دراسة التطور البشري وتفهّمه أوسع من أن يحيط بها أي تخصص ضيق ولابد من استخدام أدوات ونظريات تاريخية واجتماعية واقتصادية ونظريات تحلل الخطابات الآيديولوجية. لكن العلوم الإجتماعية بهذا المعنى لاتعني أن يتعامل المرء مع الظواهر تعاملا صحفيا (وأكرر احترامي للصحفيين) يأخذ نتفا من هنا وأخرى من هناك، بل أن يغوص قدر الإمكان في فروع المعرفة التي أشرت إليها ويتعامل مع المعطيات الوضعية بحذر. هنا باتت فكرة إنتاج عمل نقدي/ تحليلي/ تاريخي شغلي الشاغل.
قضيت عشرين سنة كاملة وأنا أعمل على هذا الكتاب. فقد اتّخذت قرارا تمسّكت به هو ألا أنتج كتاباً جديداً إلا إذا كان عندي جديد أضيفه إلى العلم الإجتماعي. وأترك الحكم للقارئ والناقد إن كان هذا الكتاب أوفى بهذين الشرطين: أن يحمل جديدا، وأن يكون تبنّى دراسة الظواهر من منظور يتجاوز أي فرع ضيق من فروع العلوم الإجتماعية. كتبت بالطبع عددا لاحصر له من الدراسات والأوراق المتعلقة بالموضوع، وصغت مواد تجريبية للتدريس في الجامعات لكنها كانت جميعا تمهيدا أو اختبارا أو امتحانا أولّيا للفرضيات ولصرامة المنهج المتبنى في العمل.
ج: ماهي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
ع.خ: ثمة مستويات متباينة عدة يمكن مقاربة هذا السؤال من خلالها. حين يكون عقلك وحياتك كلها، أو جلّها لكي لاأبالغ، مستفَزّة لإنتاج ما تريد إنتاجه فلن تر فيها تحدّيات، بل سدوداً هائلة تدفعك أحيانا إلى التساؤل عن جدوى المضي في المشروع أو عن إمكانية المضي فيه أصلا. وبعد أن تضع المشروع في شكله الجاهز للمتلقّي، ولن أقول شكله المكتمل، إذ ليس ثمة منتج جاد يرى أن عمله اكتمل، تشعر أن تلك التحديات أغنت حياتك وعملك وأفكارك من دون أن تعي الأمر مسبقاً.
أعتقد أن كثيراً من قرّاء (وبالتأكيد محرري) "جدلية" عاشوا، أو عرفوا، معنى أن تقضي (لا أن تضيع) جزءاً كبيراً من عقد أو أكثر من عمرك كحيوان سياسي لأن ضميرك يملي عليك ذلك. عدد لاحصر له من الدراسات الأكاديمية والسياسية والندوات والفعالية لكي توصل صوت المعذبين من أبناء بلدك أو منطقتك.
ولا أعرف كم من القرّاء عاش تجربة أن يبدأ إنسان عرفته بيئة منطقته الثقافية بتعريف نفسه من جديد في بلد جديد وهو ليس عشريني العمر محاولاً أن يجد مجالا يتخلص فيه من الخوف لينتج عملا امتلك تفكيره طوال أكثر من ثلاثين عاماً. فالمنفي، كما يقول سلمان رشدي في آياته الشيطانية، كرة معلّقة في الهواء. تتطلّع إلى الأمام بالتطلع إلى الوراء. ولكن أقول بشكل قاطع أن التحدي الأكبر تمثل في صياغة منهجية صارمة تحدّثت عنها بإسهاب في إجابتي على السؤال المتعلق بكيفية تبلور فكرة العمل عندي. كان هذا تحدّيا لن أبالغ في القول بأنه ارّقني سنوات طويلة بالمعنى الحرفي والمجازي للأرق. لخّصت في إهداء كتابي بعضاً من تحديّات أخرى لعل المنفيين، لا المهاجرين أو المغتربين، عانوا منها أكثر من غيرهم، لكنني أبرزت آثارها الإيجابية فقط:
"مضى أكثر من عقدين منذ أصدرت آخر كتاب لي! لم يكن الأمر كسلاً. ولن ألجأ إلى أعذار مهدِّئة بالحديث عن ظروف صعبة مررت بها. فالموضوعات التي تبدو سهلة وقابلة لإجابات يقينية عنها في فترة الشباب تزداد زئبقية وقدرة على الإفلات من اليد مع السنين. وتستحيل الأجوبة إلى اسئلة. وفروع المعرفة التي كانت مرتّبة بشكل أنيق يحفظ لها استقلالها ويجعلها تستعصي على من يحاول خرق حرمتها تأخذ بالقفز فوق بعضها البعض غير عابئة بالتصنيفات المدرسية. والأمور التي عالجت حين كنت في العشرينات معتقداً أن التحليل الإقتصادي الصارم كفيل ب"الإجابة" عنها بدت الآن أكثر دهاءا، تتطلّب الغوص في التاريخ ونظريات علم الإجتماع والفكر السياسي. ولم تكن تلك الرحلة بين فروع المعرفة لتكون ممكنة لولا ظروف الإقتلاع! هما اقتلاعان في واقع الأمر. اقتلاع جغرافي أجبرني على التنقّل بين سبعة مناف فتحولّت نقمته إلى نعمة الإغتناء بعلاقات عمر نسجتها مع علماء سياسة وفلاسفة ومؤرخين وعلماء اجتماع وروائيين وفنانين، وأهم من كل ذلك مع مناضلين سياسيين من بلدان عدّة أغنوا معارفي ووسّعوا مداركي. واقتلاع ثان نتج عن الأول إذ قادتني الفرص والصدف معا إلى الخروج من التخصص الضيّق حين قمت بتدريس مواد صمّمت بعضها بنفسي تبدأ من الدراسات المقارنة لنشوء الدول والقوميات والهويات ومعنى السلطة وتمر بالعلاقات الدولية والإقتصاد السياسي والعولمة وصولا إلى نظريات التطور."في الإقتلاع الثاني تتعرض إلى تحدّ جدي مرتبط بما ذكرت سابقا عن صياغة منهجية صارمة. اكتشفت وأنا أدرّس (وأتعلّم من) موضوعات تنتمي إلى حقل الإجتماع مثلا، أن ثمة غيابا شبه تام للتحقيب الزمني لظاهرة محددة. فالبداوة هي البداوة سواء كانت في القرن الأول بعد الميلاد أو في القرن التاسع عشر. واكتشفت أن ما يٌحتفى به في علم التاريخ هو اكتشاف سجل كامن في أرشيف لم يكن معروفا من قبل. واكتشفت أن الإقتصاديين قادرون على صياغة معادلات رياضية شديدة الدلالة تبين العلاقة بين المتغيرات الإقتصادية من دون وضعها في سياق اجتماعي- تاريخي، واكتشفت الأسوأ في علم السياسة (وهو ما زلت أشك في كونه علماً) الذي ينتقي ما يشاء، من أي بقعة يشاء للتوصل إلى الإستنتاج الذي يشاء ويلعب دورا يريده السياسيون. بوسع القارئ أن يدرك حجم وثقل الإرهاب الفكري الذي يتعرض له من يجادل مفكرين تكرّسوا كأعلام في ميادين اختصاصهم ويسعى لنقض بعض من مفاهيمهم واستنتاجاتهم لأنها عجزت عن تحقيب الظواهر كسلسلة زمنية diachronic أو لعجزها عن النظر إلى ظاهرة ما في تمايزها عن أو تماثلها مع ظواهر أخرى في فضاءات أخرى، ناهيك عمّن يتحدّى صحة الوقائع أو التفسيرات التي يستند إليها هؤلاء المفكرون.
ج. ماهي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
ع.خ.: ثمة فصل في الكتاب يدور حول "المدينة المتشظّية". درست في هذا الفصل طابع المدينة قبل الحداثية ودرست في فصل آخر بعنوان "الهجرات المدمِّرة" تحولات المدينة مع عملية العبور إلى الحداثة. وقد جمعت مادة هائلة لإعداد هذين الفصلين: أوصاف رحّالة خلال فترات تمتد من القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين، خرائط المدن وتقسيم أحياءها بين الطوائف القوميات والملل والمهن، خرائط تبين أحياء المهاجرين وعمليات الإقصاء والإدماج التي تمارسها المدينة، دراسات وضعية عن تواريخ مدن من باريس إلى القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت، دراسات عن الحرف والمهن وعلاقة المدن بأريافها، وغير ذلك.
جذب انتباهي وأنا أعد هذين الفصلين أن مفردة المواطن مشتقة على الدوام من مفردة المدينة، على الأقل في اللغات التي أعرفها وتلك التي يتقنها زملاء لي سألتهم عن الموضوع: الإنكليزية، الفرنسية، الألمانية والهولندية، الإسبانية والروسية، في حين أن مفردة البلد ومفردة الريف مترادفتان في تلك اللغات. تشذ لغتنا عن هذه القاعدة. مفردة الوطن مشتقة من التوطّن: توطّن الرحّل في أرض ما. فيما تترابط مفردة الحضري مع الحضارة. وقبل أن أنهي الكتاب، كانت تدور في ذهني فكرة مشروع يستكمل ويبني على "ولادات متعسرة": تكوّن دول المشرق خلال القرن الماضي وعلاقته بدور المدن. هذا المشروع يرفض أولاً الفكرة المسطّحة عن ضابطين أحدهما بريطاني والآخر فرنسي جلساً ورسما خطوطا خرجت باسم سايكس – بيكو فصرنا ضحايا لإستعمار أعاق وحدة الأمة العربية. بتعبير آخر هو تفكير يرفض إعطاء السياسة دورا قادرا على تغيير العلاقات الإجتماعية (لا البنى السياسية). هنا أيضا أتناول الأمر من خلال دراسة مقارنة لتكون الدول الأوربية الحديثة. لكن العمل الحالي يتناول بتفصيل شديد البنى الإجتماعية التي كانت قائمة في ظل العثمانيين وكيف ساهمت في تكوين دول المشرق الحالية، فضلا عن العوامل البيئية مثل دور الأنهار في شدّ أجزاء مصر والعراق وكيف أدى غيابها إلى وجود مركزين، بل عالمين مازال أحدهما مستقلا عن الآخر هما دمشق وحلب في سوريا. فضلا عن ذلك أتناول العوامل التكنولوجية مثل شق قناة السويس ودخول السكك الحديد...إلخ.
وهو يرفض ثانياً دراسة المجتمعات المشرقية من خلال ثنائيات مبسّطة: مدينة/ بداوة. ثمة فوارق هائلة، على سبيل المثال، بين تركيب مدينة التجارة بعيدة المدى كالإسكندرية والبصرة وبيروت، وبين مدينة الإنتاج كحلب والموصل، ومدينة الإدارة، ومدينة التجارة المحلية. فكل من هذه التنويعات يختلف من حيث ارتباطه بالريف المحيط به، وشكل ارتباطه بالدولة الحديثة. وكل منها يلعب دورا شديد الإختلاف في تحديد طبيعة الدولة المتشكّلة. إلى جانب هذا أسعى لأن أعرض التنوعات الكبيرة ضمن القبائل البدوية وسيروراتها والبلدات الصغيرة والأرياف.متى يرى المشروع النور؟ برغم كل المادة الهائلة المتوافرة لدي، أظل متوجّسا من أن أغفل عن عمل مهم وأظل أدقق في كل فكرة. إلى جانب كل هذا اتطلّع إلى جهة يمكن أن تقدّم منحة تساعدني على التفرّغ كليا لإنجاز مشروعي، وهو أمر ليس باليسير حين تكتب عملا بالعربية.
* * *
نصوص مختارة من:
عصام الخفاجي
ولادات متعسّرة: العبور إلى الحداثة في أوربا والمشرق
(حذفت الإحالات والإستشهادات بهدف الإختصار)
في المنهج وما يحاول الكتاب معالجته
(مقتطف من التمهيد)
إن التحيز الآيديولوجي المسبق ضد ربط تواريخ العالم الثالث بتواريخ باقي أنحاء العالم هو ما يفسّر في نظري الجهل الذي يكاد يكوم شاملاً بالعمليات التي أدت إلى نشوء أوربا الحديثة (والرأسمالية بوجه عام) في أوساط دارسي العالم الثالث. وهذا الجهل، أو التجاهل المتعمد جعل من المألوف أن يبدأ أي عمل في هذا الميدان ببضع فقرات تكرر تعميمات معروفة (وخاطئة، أو لا أساس علمياً لها) عن تاريخ مفولب لأوربا يبين متى وكيف “أننا”، أي العالم الثالث، لم نستطع ولن نستطيع، ولا يمكن أن نصبح “مثلهم” أو “منهم”.
تنطوي المعارضة التقليدية بين ال"عالمين" على الجمل التقريرية التالية:
* على عكس أوربا، لعبت "العوامل الخارجية"، أي الإنخراط في التجارة العالمية و/أو الإلحاق الإستعماري، دوراً حاسماً في:
1. تشكيل وإنشاء حيز وطني بشكل اعتباطي ومصطنع في العالم الثالث
2. غرس أنماط إنتاج تتواءم مع حاجات السوق العالمية
3. تشكيل البنى الطبقية المحلية في البلدان التابعة
4. التسبب في التبعية والتخلف
وبسبب العوامل المزعومة أعلاه، فإن العلاقة بين البنى الإجتماعية المحلية مختلفة عن تلك التي نلحظ وجودها في أوربا من النواحي التالية:
1. انخرطت برجوازية منتجة صاعدة في أوربا في صراع مع النظام الإقطاعي، في حين أن برجوازية العالم الثالث نشأت من رحم ملاك الأرض الإقطاعيين فدخلت بالتالي في تحالف وثيق مع ذلك النظام.
2. استولت البرجوازية على سلطة الدولة في أوربا وحولت المؤسسات القائمة جاعلة إياها ديمقراطية وتعددية، في حين أن الدولة التابعة في العالم الثالث ظلت ذات مصلحة في إدامة التبعية للسوق الرأسمالية العالمية وبالتالي في إدامة التخلف والحكم التسلّطي.
3. لم تكن الثورات الوطنية في العالم الثالث نتاج عمليات تاريخية شبيهة بتلك التي عاشتها أوربا. ففي حين أن الأخيرة كانت موجهة ضد البنى والفئات قبل الرأسمالية، عادت ثورات العالم الثالث الرأسماليين وقبل الرأسماليين على حد سواء وأقامت أنظمة دولتية étatist محل سلطة كليهما، وعليه:
4. فبعكس أوربا، تشكّل دول العالم الثالث الطبقات الإجتماعية المحلية وهي التي تنشئ الطبقات السائدة لا العكس. لقد "انقلبت" العلاقات ال "تقليدية" و "الطبيعية" التي كانت قائمة بين الطبقات السائدة والدول قبل الثورات حين كانت الطبقات الثرية تدجّن سلطة الدولة وتخضعها لمصالحها.
والإستنتاج الأخير لتلك المناهج التقليدية هو أن دراسة بنى وصراعات وتبلور مجتمعات العالم الثالث من خلال اللجوء إلى مقولات "غربية" كالطبقات والمصالح الطبقية والآيديولوجيات كتعبيرات اجتماعية هي أمر عقيم، أو نافل في أحسن الأحوال ذلك أنها لا تنطبق على حال تلك المجتمعات.
هدف هذا البحث هو البرهنة على عدم تفرّد مسارات العالم الثالث نحو الحداثة، مما يعني ضمنيا عدم فرادة مسار أساس المقارنة (الذي هو أوربا) نحو الحداثة.
بيد أن صرحاً هائلاً من التنظير والوصف والتأمل الإعتباطي قام على الإفتراض المسبق للتعاكس عوض قيامه على المقارنة بين المسارات.
. . .
إن عزل الآخر وتشويهه ظاهرة قامت في أوربا قبل العصر الكولونيالي بكثير. ولكن، عزل "الأجانب" الذين لايشاركوننا في قيمنا وثقافتنا كان (ولايزال، لسوء الحظ) الصورة المقابلة التي تمكننا من تحديد هوياتنا سواء كنا أوربيين أو أفريقيين.
بدهي، حين يكون الآخر بعيداً (جغرافياً) ولا يشكل خطراً على الهوية المتخيلة لقوم معينين، فليس ثمة حاجة لعزله مادام الفضاء الجغرافي وغياب الإتصالات المكثفة ينفيان الحاجة إلى مثل هذا العزل. فمن الطبيعي، والحالة هذه، أن فضائين متجاورين هما أوربا والمشرق، أو عالمي المسيحية والإسلام يختاران كلا منهما هدفا للعزل والتشويه، بما أنهما متجاوران ويعتنقان آيديولوجيتين ترى كل منهما أنها ذات ًطابع كوني. فالتنافس والصراع على الأرض والسيطرة على البشر جعل من قضية فقدان الهوية خطرا ماحقاً وحقيقياً لأبناء كلا المنطقتين المتجاورتين.
وعليه، لابد من الإعتراف بأن العزل والتشويه ليس خاصية أوربية، غربية، أو مسيحية، فقد مارس المسلمون (وغيرهم) الأمر ذاته. إن كان الأمر هكذا، فإن أوربا أو الأوربيين لم يحتكروا تلك التحيزات المقيمة في ثقافات كل الشعوب منذ الأزل. لكن ما أضفى على التحيز الأوربي صفة العدوانية أو ما بتنا نسميه بالمركزية الأوربية، إنما يكمن في حقيقة أن أوربا فرضت هيمنتها الإجتماعية الإقتصادية منذ القرن السادس عشر وبات بوسعها مذّاك أن تمفصل كل تلك العناصر في خطاب كولونيالي هجومي قوي قادر على التغلغل والتأثير في ثقافات إخرى، بما في ذلك ثقافات الشعوب التي تم قهرها، وذلك بالضبط بسبب تطورها المتفوق في المجالات الثقافية والتقنية والعسكرية وفي ميادين الإتصالات. إن الغياب المؤسف لأية أشارة لعلاقات القوى المتغيرة مع صعود وهيمنة الرأسمالية جعل عمل أدوارد سعيد قابلا لتفسير يستند إلى الخصوصيات الحضارية.
. . .
يسعى هذا العمل/الكتاب إلى تقديم تفسير مختلف جذرياً عن تشكل العالم الثالث المعاصر. وحجتي الأساس تكمن في رفض تصوير أو تصنيف التغيرات الإجتماعية ضمن ثنائية أجزم أنها زائفة تقوم على "تفسير" يعتبرها ناتجة إما عن تاثيرات "داخلية" أو "خارجية". إذ لايمكن تحديد أو تعريف أي جماعة أو كيان أو مجتمع من دون وجود أو "اختراع" جماعة أو كيان أو مجتمع تتفاعل معه.
السؤال الحاسم ،إذن، لايتعلق بالمصدر المزعوم للتحولات (خارجية أو داخلية) بل في الكيفية التي يستبطن internalize من خلالها كيان أو جماعة ما الآثار المحيطة به.
. . .
إن كان التواصل والتأثير المتبادل بين "الداخلي" و"الخارجي" قائما على الدوام (سواء كان الحديث يدور عن العولمة المعاصرة أو عن عالم السومريين والفراعنة)، فلماذا يتخّذ التأثر شكلا محددا هنا، وشكلا آخر هناك؟ الأمر لايتعلق بالتأثير الذي تمارسه قوة خارجية، لا لإن تلك القوة بريئة من محاولات التأثير، بالطبع، بل لأن تلك القوة، أو القوى (الإستعمار، الإمبريالية، الغزو) في محاولة فرض نفوذها/تأثيرها تترك نتائج شديدة الإختلاف على البيئات التي تتدخل فيها. ومايفسر الإختلاف في رد الفعل، إذن، إنما هو الطريقة التي يتعاطى بها كيان ما مع التأثير المسمى خارجياً. يلي هذا السؤال، سؤال آخر لايقل أهمية عن كيفية استبطان العوامل الخارجية، هو لماذا تستبطن جماعة أو كيان ما تلك العناصر الخارجية بشكل محدد في لحظة زمنية محددة؟ ما سأحاول تبيانه هنا، هو أن أوربا في أوائل انتقالها إلى الحداثة، مثلها مثل العالم الثالث، لم تتطور في عزلة عن الخارج. لكن ما قرر وحدد حصيلة التفاعل مع الخارج، إنما كان طبيعة العلاقات الإجتماعية التي سادت كلا من تلك المجتمعات. هذا التفاعل ينطوي على تصادم كتلتين، أو أكثر، من المصالح.
. . .
وعليه، فبرغم الإشارات الكثيرة أعلاه، لايكمن طموحي في إنتاج عمل عن "العالم الثالث"، أو عن نظرية التطور/التخلف، أو عن منطقة ما في هذا العالم، ولايكمن حتى في المقارنة بين المشرق وبين أوربا. يسعى هذا العمل، بالأحرى، إلى المساهمة في نظرية التشكيلات الإجتماعية ويحاول بخاصة أن يتفهم آليات الحداثة: أصولها ومقدماتها، إمكاناتها وأنماط انتشارها عبر الزمان والمكان. أحاول، بتعبير آخر، موضعة التواريخ المحلية ضمن إطار نظرية عامة عن التطور الرأسمالي على مستوى عالمي.
الدول والطبقات في حالات العبور إلى الحداثة
مع صعود الدولة الحديثة، تغدو السياسة ميدان نشاط متميز ومتخصص للمرة الأولى في التاريخ البشري. وبوسعنا القول أن هذه هي السمة المميزة الرئيسة للدولة الحديثة بالمقارنة مع ماقبلها. فقد ترتبت على عملية انفصال السياسة هذه سلسلة من عمليات الفصل والتمايز، إن صح القول: إنفصال الإقتصاد ونشوء السوق كآلية تنظم العملية الإقتصادية على عكس دورها المحدود قبل ذلك، وانفصال الدين والآيديولوجيا عن كل من الإقتصاد والسياسة بتحولهما إلى حقل متميز. وفي الحقل السياسي نفسه، أنشأت سلسلة من التخصصات أجهزة متزايدة ومتمايزة لدرجة أن كلمة الدولة باتت أوسع من أن تحيط بكل الواقع الجديد. والأمثلة الواضحة على ذلك هي فصل الفروع التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتمهين قوات الجيش والشرطة والدور المستقل نسبيا الذي اكتسبته البيروقراطية الإدارية، وهذه كلها حالات لم تعرفها العصور قبل الرأسمالية.
ومع أخذ الدولة المعاصرة بملء "كل الفضاء الإجتماعي" بات يتم النظر إليها كفاعل مستقل بشكل متصاعد وكمشكّل لذلك الفضاء الإجتماعي. فالتحولات الإجتماعية صارت تبدو وكأنها نتاج سياسات وبرامج الدولة. وعليه فثمة سؤال مشروع هو ما إذا كانت معالجتنا للعلاقة بين الدولة والمجتمع خاطئة، أم أنها تنطبق على حالة الدول قبل الرأسمالية ولاتنطبق على حالة الدولة الحديثة؟
يكتسب هذا السؤال أهمية لأن عددا متزايدا من علماء السياسة والإجتماع أخذوا خلال ربع القرن الأخير يرفضون، عن حق، المفهوم الأداتي المبسّط للدولة بوصفها مجرد عاكسة أو خادمة لمصالح الفئة المسيطرة من المجتمع، ليتبنوا مفاهيم أكثر دينامية تبرز الإستقلال النسبي لتلك المؤسسة. ولكن، وكما هو حال النظريات الإجتماعية والسياسية، ثمة الآن نزوع للإنزلاق إلى الطرف المعاكس للفهم الأول المرفوض بتصوير الدولة كما لو كانت مؤسسة مستقلة تواجه مؤسسة أخرى مستقلة هي المجتمع. فلابد إذن من أن تعاد موضعة الدولة في سياقها الإجتماعي.
. . .
ما الذي يجعل الناس يعتبرون استخدام أو تطبيق أو التهديد باستعمال العنف الجسدي وسيلةعادية، بل ضرورية لحماية رفاههم لضمان إعادة إنتاج نظمهم اليومية فيما يدينون أشكالا أخرى من القمع ويصوّرونها كـ "دكتاتورية" أو "طاغية" وما إلى ذلك؟
سيجيبنا أي كتاب مدرسي مألوف بالإحالة إلى المثل الليبرالية النابعة من العقد الإجتماعي الذي يتم عقده بين مختلف مكوّنات المجتمع إذ يتنازل المواطنون عن جزء من حرياتهم الشخصية للسلطة التي تدافع عن "مصالحهم الجماعية". ولكن مالم يكن المرء متبنيا لإحدى تنويعات النزعة الثقافوية، فإن هذا "التفسير" يعجز عن تفسير الأسباب التي تجعل معايير الحكم الليبرالية غير مقبولة إلا في لحظات تاريخية معينة فقط، أو لماذا تكون أشكال معايير شديدة الإختلاف عن الأنماط الليبرالية مقبولة كذلك في لحظات تاريخية أخرى أو في ظل ظروف أخرى؟ إن مجتمعا قبليا أو مدنيا من القرون الوسطى، على سبيل المثال، سيعتبر مفهوم الكائنات الإنسانية المتساوية أمرا مرفوضا كليا من الناحية الأخلاقية ومدمرا وقاتلا لأسس ذلك المجتمع.
إذن، فواقعة أن غالبية الناس ترى في المعايير اللبرالية الشكل "الطبيعي" للعيش في ظل ظروف تاريخية معينة فقط ينبغي أن تمثل تحذيرا للمرء من تبنّي أسلوب تبسيطي في تصوير دورات السيطرة الآيديولوجية على امتداد التاريخ. فلو تم النظر إلى اللبرالية من منظور آخر، أو في ظل شروط تاريخية أخرى، فإنها لن تبدو كمجرد نظام متسامح في الحكم وفي إرساء القواعد الإقتصادية، بل أيضا كآيديولوجية لا تقل "توتاليتارية" عن أي من التصورات الرئيسة عن العالم لأنها تملي علينا معايير السلوك الفردي "الصحيحة" وقواعد الإختيار السياسي "الصحيحة" والطريقة "السليمة" لإقامة العلاقات، إلخ... ولكن حتى واقعة التسامح لن تبدو تجريدا ومعيارا مطلقا كما يصورها اللبراليون. وتكفي الإشارة في هذا السياق لا إلى عدم التسامح الذي أبداه اللبراليون تجاه حضارات ضحايا استعمارهم فقط، بل كذلك إلى دعوات اللبراليين الأوائل إلى حظر، بل ومطاردة لا غير اللبراليين فحسب بل أيضا بعض الجماعات التي اعتبرها اللبراليون لاتستحق الإنتماء إلى معسكر الخصوم المحترمين كاليهود والغجر وغير الكاثوليكيين أو غير البروتستانت حسب البلد وما إلى ذلك من حالات تتغير مع تغير الأزمنة.
إن مثال صعود وهيمنة اللبرالية في العصر الحديث ذو أهمية بالغة في تبيان أن على الآيديولوجيا المسيطرة لا أن تقنن وتشرعن العلاقات الإجتماعية القائمة فحسب، بل في أن تجعل تلك العلاقات ذات قدرة على أداء وظائفها. ومن الواضح تماما إن اللبرالية لايمكن أن تعمل في مجتمع لايؤمن أعضاؤه بأنهم متساوون. ولما كانت الظروف الإجتماعية في تغير مستمر، ينجم عن ذلك أن تتناغم الآيديولوجيات المهيمنة والطريقة التي يرى الناس فيها العلاقات فيما بينهم، وبخاصة العلاقات بين الحكام والمحكومين والأساليب التي ينزعون إلى تصوير أنفسهم عبرها مع تلك التطورات الإجتماعية. والسؤال الذي يثور هنا هو كيف ولماذا يتقبل الناس حكم سلطة ما؟
. . .
ينتمي مفهوم الإذعان هنا إلى عالم الوعي ولكن ليس بالمعنى المثالي للكلمة، بل إنه يشير إلى مستوى المعرفة البشرية عند كل لحظة محددة من لحظات التاريخ. ومن دون الإدعاء بتقديم تفسير كامل لمحددات المعرفة البشرية، دعونا نفترض إن البشر في كل لحظة تاريخية يتشاركون في تبني إطار مشترك من التفكير بغض النظر عن مواقعهم الإجتماعية والإقتصادية والسياسية. إن هذا الإطار المشترك، الذي لايلغي بالطبع وجود اختلافات واسعة المدى بين الأفراد والمجتمعات والفئات المختلفة داخل كل مجتمع حسب مستويات التطور العلمي والثقافي، يحدده مستوى المعرفة العلمية المشتركة بينهم جميعا. فالإذعان إذن لابد وأن يكون ذا علاقة بإحساس جماعة ما بالخطر الذي تشعر بأنها معرّضة له من جهة، وبالصفات التي يتمتع بها قادتها بما يمكّنها من الحماية من جهة أخرى. وهنا لابد من الإشارة إلى أنه من غير المهم في هذا السياق التبحّر بمعرفة إن كان الخطر حقيقياً أو وهمياً.
ولكي يتبلور الإذعان في صفوف الخاضعين لابد أولا من أن يكون ثمة إحساس بالوحدة بينهم وبين الحكام، وهذا جانب غطّت عليه أطروحة القسر التي ركّزت على الصراعات الداخلية ضمن وبين مكونات الجماعة. ومع إن النزاعات قد تلعب دورا مهما في تطور أو تحلل الجماعة، إلا أنها يجب أن تخاض ضمن إطار مرجعي مشترك يعيّن الصحيح والخاطئ، وإلا لن يكون بوسعنا الحديث عن مجتمع أو جماعة أو تشكيلة اجتماعية أو أمة، بل عن حروب بين الجماعات تمثّل فيها كل جماعة مجتمعا خاصا بها.
يحدد مستوى المعرفة الإنسانية في لحظة تاريخية ما نطاق تصورات البشر عن الكون والعالم، ويحدد في الوقت ذاته طريقة تصورهم عن القادة والسلطة وأشكال العلاقات الإجتماعية. بتعبير آخر، يحدد هذا المستوى أنماط التنظيم الإجتماعي التي تعتبر مقبولة، بل ومثلى في زمن معين. والواقع أن هذا المستوى من المعرفة البشرية السائد في لحظة تاريخية معينة هو الذي يحدد كيف أن المعايير الأساس والقيم والمعطيات لايمكن تحدّيها من قبل الأقسام الرئيسة المكونة للمجتمع. وعندها ستدور الصراعات حول الطرف الذي يحافظ على تلك المعايير وينجزها و/أو يمثلها بشكل أفضل من غيره.
إن صح ما ذكرنا أعلاه، فبوسعنا أن نفهم على سبيل المثال كيف ولماذا لم يكن بوسع الصراعات الكبرى في أوربا القرون الوسطى أو العالم الإسلامي حتى نهاية القرن التاسع عشر (وربما حتى اليوم) أن تتجاوز الحدود التي يمليها القبول العام بالدين السائد (المسيحية والإسلام على التوالي) كمنظّم للحياة اليومية، بحيث كانت الصراعات الإجتماعية في ظل تلك الظروف التاريخية أمرا بدهيا، ويكفي في هذا السياق التذكير بالصراعات الدموية التي حدثت عند ذاك مثل ثورة العبيد ضد الإمبراطورية العباسية أو حروب الفلاحين في ألمانيا. كان كل طرف يسعى لإثبات أن صيغته الدينية كالمسيحية أو الكالفينية مقابل الكاثوليكية في ظل أوربا المسيحية، أو المذهب الشيعي مقابل المذهب السني هي الدين "الحقيقي". وبشكل مشابه فبوسعنا ملاحظة أن مجتمعا يكرّس الفردية والعلاقة التعاقدية بين الأفراد كالمجتمعات المعاصرة سينتج رؤيتين قد تبدوان متعارضتين بل ومتعاكستين للوهلة الأولى هما اللبرالية من جهة واليسارية سواء اتّخذت شكل الإشتراكية الديمقراطية أو الماركسية أو غيرها من جهة أخرى. لكن هاتين المجموعتين من الفلسفات تتشاركان في النظرة إلى العالم، فكلاهما ينطلق من مبادئ المساواة بين البشر والديمقراطية كهدف ينبغي الكفاح من أجله والحرية والعدالة من حيث قدرة البشر على الوصول بشكل متساو إلى مصادر الثروة والسلطة والتقدم. إن هذه المبادئ الأساس في عالمنا المعاصر ستكون مدمّرة لأي بنية قبل رأسمالية وستكون غير قابلة للتخيل في تلك الظروف. أما الصراع بين الفلسفات في العصر البرجوازي، أي اليسار من جهة واليمين من جهة أخرى فإنه يدور حول المعنى "الحقيقي" لكل من تلك المعايير والمفاهيم التي لانزاع عليها. إنه يدور حول التساؤل إن كان تحقيق الديمقراطية يتم من خلال صناديق الإقتراع (اللبراليون) أو عبر تمكين الناس من الوصول إلى مصادر الثروة أولا (اليساريون)؟ وينطبق الأمر ذاته على مفاهيم مثل العدالة والمساواة والحرية. إن هذه الوحدة بين الرؤيتين هي ما يكوّن التشكيلة الإجتماعية، أي وجود رؤى مشتركة لم ينتجها إي قسم أو مجموعة من التشكيلة الإجتماعية منفردا بل إنها نتاج الشروط العامة التي تتعايش وتتصارع في ظلها الجماعات الأساس وتتعايش في الوقت عينه.
.....
إن وجود (أو الإعتقاد بوجود) جد و/أو أسلاف مشتركين يشكل الشرط الضروري للتشكل الطبقي المبكر ضمن الجماعات التي تعيش على تربية الحيوانات و/أو الصيد، أي السكان غير المستقرين، إذ في مجتمع كهذا لايمكن أن تعزا المعرفة الخارقة لأي عامل غير الإتصال بالأموات وبالتالي الإتصال بإله أو آلهة. بتعبير أكثر دقة، إن مثل هذه المعتقدات ضرورية لشرعنة وجود مجموعة قائدة أو مهيمنة ضمن المجموعة لكنها لم تتمايز طبقيا بعد. من هنا فإن تصور الإنتماء إلى هوية مشتركة مختلف عن تصورات المساواة أو التماثل بين أعضاء جماعة ما. فالشعور بالإنتماء المشترك لايتناقض مع الإحساس بالإختلافات التي يرسمها القدر بين السلالات التي قدّر لها أن تقود وتلك المحكوم عليها بأداء الوظائف اليدوية. فالإختلاف بين الإحساس بالتماثل وبين الإحساس بالصلة المشتركة ينبع من عمليتين تاريخيتين لاتتطابقان إلا في ظل شروط تاريخية محددة هي التي تؤدي إلى قيام المجتمع البرجوازي.
ولكن قبل ذلك وحتى نشوء القومية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوربا، فإن تاريخ التوطّن في الأرض والصعود التدريجي لمبدأ الهوية القائمة على الإشتراك في العيش على رقعة واحدة ظل موسوما لا بسيطرة "الأجانب" على السكان المحليين فحسب، بل بتغير مستمر في تعريف من هو الأجنبي ومن هو المحلي بحيث يتميز الحكام بوصفهم منتمين إلى جماعة أخرى غير تلك التي ينتمي إليها الرعايا حتى لو تطلّب الأمر اختراع ذلك التمايز بهدف تبيان أن الحكام مؤهلون "بطبيعتهم" للقيادة.
وحيثما كان الحكام يتحدرّون من ذات الإصول العرقية التي ينحدر منها أتباعهم، فإنهم لجأوا إلى استخدام اللغة الراقية في ذلك العصر غير اللغة (أو اللغات) التي استخدمها العامة: اللاتينية التي كانت لغة الكنيسة في القرون الوسطى، الفرنسية في البلاط البريطاني حتى القرن الرابع عشر، العربية التي استخدمها الحكام والنخبة في إسبانيا حتى بداية القرن الرابع عشر، التركية في المناطق العربية والكردية والأوربية الشرقية الخاضعة للسيطرة العثمانية، والفارسية في أفغانستان وشمال الهند. بل أن النخب الحاكمة التي لم تكن ذات مستوى ثقافي متطور يؤهلها للتماهي مع حضارة "أرقى" متميزة لجأت إلى "اختراع" لغة وثقافة خاصة بها.
إذ ننظر إلى الأمر من زاوية عصرنا فنراه مستعصيا على الفهم، يغدو الآن قابلا للتفسير عبر أمثلة لا عدّ لها ولا حصر: النورمانديون في بريطانيا، تصدير ملوك وملكات وأمراء الهابسبورغ إلى النمسا والبوربون إلى فرنسا والأسرة الهاشمية إلى العراق والأردن والألبان إلى مصر والعلويين المنحدرين من الحجاز إلى المغرب . غير أنه حتى في الحالات التي انحدر الملوك فيها من داخل الكيان السياسي ذاته كانت مناطق أو أسر محددة تعتبر مؤهلة "بشكل طبيعي" لإخضاع وتوحيد باقي السكان. وأمثلة ذلك الغوليون في فرنسا ومناطق هولندا في الأراضي الواطئة والختميون في السودان والسنوسيون في ليبيا.
كان الإنتماء إلى سلالة متفوقة من النبلاء إهم من قضية الإنتماء المشترك مع الرعايا الخاضعين لهم لشرعنة السلطة. بتعبير أكثر دقة، كان على السلطة أن تؤدي في الوقت ذاته هدفين يبدوان متناقضين للوهلة الأولى أولهما الإرتباط بسمة مشتركة ما مع رعاياها في حين أن الثانية تكمن في البقاء بعيدا عنهم بأن تبُدي أنها تمتلك "بطبيعتها" خاصية لاتمتلكها الرعية. وعادة ما يكون العنصر المشترك بين السلطة ورعاياها هو رابطة الدم أو الدين، في حين أن التمايز يتحقق عبر قدرة المتسلطين على إقامة علاقة مع القوى فوق الطبيعية، وهو ما ينعكس في تبنيها لأنماط قيم متمايزة.
نتوصل مما سبق إلى ثلاثة استنتاجات:
1. إن السلطة السياسية هي الجنين الأول للتمايز الطبقي ضمن جماعة ما وليست نتاجا وظيفته تنظيم صراعات قائمة أصلا بين طبقات متناحرة، كما توصل أنجلز في نظريته الماركسية عن أصل الدولة، أو إن مشروعية التمايز الطبقي الأبكر بتعبير آخر نابعة من الدور السياسي الذي تؤديه الطبقة الحاكمة. وينطوي هذا الإستنتاج/التقرير على أن الإستحواذ على المنتج الفائض يجب أن يشرعن، وإن تلك الشرعنة ناتجة من خدمات الحماية التي يعتقد أن مجموعة متميزة قادرة على تأديتها للجماعة. ...
2. ما إن تصل إنتاجية الجماعة إلى مستوى يزيد عن تلبية حاجاتها المعاشية فإن الحكام في غالب الأحوال يظهرون اختلافهم "الطبيعي" عن الجماعة الخاضعة أو إنهم يخترعون تلك الإختلافات لكي يقيموا حواجزا تمنحهم الحرية الكاملة في ادعائهم بالعرش أو بالتسيّد على الآخرين. وفي الوقت نفسه يمكن القول بأن الرعية "تحتاج" إلى هذا التميّز لكي يمكن للسادة الحفاظ على الطبيعة المقدسة، وبالتالي فوق البشرية، لما يقدمون من خدمات.
.....
إلا إن مثل هذا التمييز [بين حكام محليين وحكام أجانب] ذو معنى فقط من المنظور المعاصر لإناس يعيشون داخل أمة تمثّل لهم الإطار أو السياق "الطبيعي" للنشاط السياسي – الإقتصادي، لكنه يظل مفهوما شكليا أو لاوجود له ضمن سياق قبل برجوازي. يلخّص التعريف الإغريقي الشهير بشكل شديد البلاغة مفهوم الهوية في الأزمنة قبل الحديثة: "البرابرة؟ من هم؟ إنهم من يعيشون وراء حدودنا". ولكن ماهي "حدودنا"؟ حاولت في الفصول السابقة أن أبين إن ما تعتبره جماعة ما أرضا أو فضاءا خاصا بها لا يتطابق مع الفضاء السياسي الذي تنتمي إليه تلك الجماعة إلا عندما يسود اقتصاد السوق كليا، ويصح هذا على الإمبراطوريات والممالك و حتى الدول – المدن. ويعود السبب في ذلك إلى أن السيادة التامة لإقتصاد السوق نفسها، والتي أكدنا إنها شرط مسبق لتماهي الأمة والجماعة، هي عملية تاريخية يعتمد تحققها على شروط مسبقة عدّة. فالسيادة التامة للسوق بوجه عام التي لا تنطوي على التبادل الحر للسلع في السوق فحسب بل قدرة الحراك الحر التام للعمل ورأس المال وتحويل الأول إلى سلعة تتطلب وجود مجموعتين من الشروط المسبقة. المجموعة الأولى هي أن تكون تلك السيادة ممكنة من الناحية التقنية (شرط الإمكانية). إما المجموعة الثانية فهي أن تكون تلك السيادة ملبية لمصالح جماعة نافذة ما في المجتمع (شرط المرغوبية).
أما إذا غابت الشروط التقنية والإجتماعية لسيادة السوق فستتخذ مديات وقواعد التفاعل بين الأقوام الإجتماعية المختلفة بالضرورة أشكالا مختلفة. ذلك أن مستويات الإنتاجية المنخفضة ووسائل النقل والإتصال البدائية تعيّن حدود التبادل بين الجماعات بما في ذلك الجماعات التي قد يقدّر لها أن تعيش داخل وحدة سياسية أكبر مثل الإمبراطوريات أو الممالك. وثمة جانب آخر يتمثل في إن الحرفيين الذين لايستهلكون بالطبع ما ينتجون لايخضعون لسوق ينظّم النشاط الإنتاجي، بل أن الإنتاج يتحقق بالدرجة الأولى على أساس المفاوضات والعقود الشخصية بين المنتج والمستهلك. أما التجارة بعيدة المدى، تلك التي تتم مع مناطق بعيدة، فإنها لا تلعب إلا دورا هامشيا في الحياة العامة للبشر برغم امتلاء الحكايات العربية وغيرها عن مغامرات السندباد وماركو بولو. ومن الملاحظتين السابقتين يترتّب استنتاج ثالث هو أن ثمة عوائق تقنية ومصلحية تقوم وتقام لمنع حراك البشر بين النشاطات أو للبحث عن فرص عمل أكثر ربحية.
في غياب السوق التي تضفي مظهر المساواة والفردية لمختلف الفاعلين وتنظم عمليات ما يسمح به وما لايسمح عبر عمل القوى الإقتصادية مثل توافر رأس المال وربحيته على سبيل المثال تتلاصق مجموعات البشر التي لا تمارس نشاطات متشابهة جغرافيا ولا تنقل اسرار مهنها إلا إلى الجيل التالي. وسواء انحدر هؤلاء من سلالة واحدة أو لا فإن الحصيلة تتمثل في تعزيز حسّ بالهوية المشتركة بين أعضاء الجماعة. ومثل هذا الحس يحدد وضع الفرد لا كعضو في نقابة حرفية فحسب بل كذلك كمقيم في ضاحية أو منتم لطائفة صوفية خاصة بكل حرفة (كما هو الحال في القاهرة ودمشق) أو لقدّيس راع لتلك الحرفة (كما كان الحال في باريس، على سبيل المثال). لكن هذا الحس بالهوية كان كفيلا بفصل تلك الجماعات عن غيرها. إن هذا الشكل ضروري للتنظيم الإجتماعي الذي لابد وأن يكون هرميا لأنه يربي الأفراد على الإيمان بوجود سلّم طبيعي بين أناس غير متساوين، مقدر لكل مجموعة منهم احتلال موقعها "الطبيعي" في ذلك السلّم. وفي الوقت ذاته يقوم مثل هذا التشكيل للتراكب الإجتماعي بفصل كل مجموعة "عمودية" عن غيرها ويعيّن شروط إحساسها ووعيها بوضع الجماعات الأخرى. يفسر لنا هذا الوضع لماذا ظلت الإحتجاجات محدودة العدد في ظل أنظمة كتلك، وحيثما اندلعت حركات احتجاجية فقد ظلت في غالب الأحوال محلية ومحدودة النطاق....
من التراتب إلى الهيمنة
بوسع الإستنتاجات التي توصلنا لها أن تمكننا من المضي للإجابة عن السؤال الذي اثرنا حول الحس المزدوج الذي يتبلور لدى الجماعات الخاضعة تجاه حكامها / مضطهديها في سياق قبل رأسمالي. فهو حس بالوحدة يضمن ويؤمن ويحفظ تماسك التشكيلة الإجتماعية من جهة وحس بالإغتراب عن الحكام من جهة أخرى.
تحتاج القبيلة إلى "البحث" عن جد مشترك، عن علاقة دم أو رابطة قرابة تشد أعضاءها فيما بينهم. لكن الزعيم الذي يفترض فيه امتلاك القدرة على التوسط بين الأعضاء الأحياء وعظماء الأجداد الموتى لابد وأن يتميز في مرحلة معينة عن باقي الجماعة وإلا سيكون بوسع أي فرد من الجماعة تحدي هذا المركز ويسعى إلى تبوأ هذا المركز. فالآثيني، سواء كان مالكا للعبيد أو لا، يتشارك بحس عدم الإنتماء لأعراق تختلف عن "غيرنا" وهو لا يمكن أن يكون عبدا قط. وحتى في المجتمعات المتجانسة نسبيا مثل فرنسا كان الحكام يلجأون إلى استخدام لغة مختلفة عن باقي السكان: اللاتينية للتميز عن الرعاع. ولعلنا نجد في كل الحالات السابقة إن "الرعاع" سواء كانوا فلاحين أو عبيدا أو أقارب في عشيرة كانوا يعتبرون وضعا كهذا الوضع الطبيعي أو العادي. فكيف كان الأمر هكذا؟
لاحظنا إنه حتى في المجتمعات التي نجحت في إقامة نظم دول موحدة بهذا القدر أو ذاك قبل محاولتها تحديث وفرض الحكم المباشر في مجتمعاتها بوقت طويل، مثل إنكلترا وفرنسا في أوربا ولكن الحالات الأكثر أهمية تمثّلت في الصين ومصر، تضافرت متطلبات الجغرافيا ومستويات الإنتاجية الزراعية وتقنيات النقل المتاحة حتى ما قبل قرنين من الزمن لتنتج اقتصادات محلية ضمن الدولة الموحّدة رسميا. فمستويات الإنتاجية الزراعية المنخفضة كانت تحدد الحد الأقصى لعدد الأفراد الذين كان بوسعهم العيش من النشاطات غير الزراعية، وبالدرجة الأولى الحكام وملاّك الأرض بالطبع. والتقنيات المتوافرة للنقل النهري والبحري وبشكل أخص البري حددت المسافات التي كان يمكن للمنتجات الزراعية نقلها من مراكز مواقع الإنتاج وحددت بالتالي المراكز المحتملة للأسواق، أي المدن أو البلدات التي تكونت أو ستتكون وفقا لذلك. ووفقا لذلك فقد حدد هذان العاملان مجتمعين حدود التواصل الإجتماعي بين البشر وحدود تقسيم العمل التي كان يمكن تكوّنها ضمن الجماعات. إذ حتى وصول التقنيات المعتمدة على البخار لم يكن ممكنا لتلك الحدود تجاوز دائرة يبلغ نصف قطرها عشرين ميلا.
غير أننا لايمكن أن ننظر إلى هذه الحالة من زاوية اقتصادية بحتة، إذ لابد من تفحّص عواقبها الإجتماعية كذلك. أكان بوسع أناس يعيشون في فضاء متشظّ كهذا بلورة حس بهوية مشتركة مع الآخرين لمجرد أنهم خضعوا للإمبراطورية ذاتها؟ إن اللامبالاة التي واجهها الثوار في مناطق محددة من جانب الآخرين هي سمة مميزة للنظم قبل الحداثية. كما يتبين بوضوح في غياب التضامن بين الحضريين والفلاحين الذي لاحظناه في الفصول السابقة.
من هنا كان سكان ليون ينظرون إلى الباريسيين كغزاة. أما في البلدان التي توحدّت لاحقا مثل ألمانيا وإيطاليا أو في الشرق الأوسط فما كان ثمة فرق كبير بين إن جاء الحكام "الأجانب" من مدينة أخرى أو من قبيلة من "الداخل"، أي إن جاءوا مما نسميه اليوم "بلدهم" أو من منطقة بعيدة. إذن فإن ما نسميه اليوم تراتبا "ضمن" المجتمع قد لايراه من عاشوه أو جربوه في سياق تاريخي آخر كذلك بالضرورة. فما دامت المهن والحرف والمواقع الطبقية تتطابق مع الإنحدارات الموروثة لأولئك الذين يمارسونها فسينجم عن ذلك إن مفاهيم الهوية والآخر ستتطابق مع مهننا / مهنهم التي تتوافق مع عرقنا، قدّيسنا، ديننا أو قبيلتنا في مواجهة عرقهم وقديسهم ودينهم أو قبيلتهم. ومع إن تقسيم العمل في اقتصاد محلي قبل حداثي لابد وأن يستند إلى اعتراف جماعة متنفّذة على الأقل بالوظيفة الإجتماعية والضرورية لكل حرفة أو مهنة وبالتالي إلى الحاجة لأدائها وإلى الحاجة إلى لأرساء قواعد تحكم ممارستها والتواصل مع من يمارسونها فلابد أن تخضع تلك الوظائف إلى سلّم يحدد أهمية كل منها.
ينطوي ذلك على إن المركز الإجتماعي الذي يتم إضفاؤه على أعضاء كل مهنة أو حرفة سيتباين وفقا لأهمية الأخيرة من وجهة نظر الجماعة أو القوى المسيطرة فيها. وهكذا فإن فإننا نواجه الآن نظاما معقّدا من الإقصاء والعزل، والتنظيم والتواصل. فمن خلال منع التزاوج بين أبناء الطوائف المختلفة على سبيل المثال، أو بمنح الحقوق الحصرية لاستملاك بضائع معينة، كالملح والتبغ وغيرها إلى الملك (الذي قد يفوّضها لغيره) يتم إرساء درجة من التوازن بين حاجات المجتمع لوظائف محددة من جهة ومنع الدخول الحر إلى حقول النشاط تلك من جهة أخرى.
من هنا، ففي ظل نظام كهذا لن يكون انتماء الطبقة الحاكمة (أو أي مجموعة اجتماعية أخرى) إلى الأثنية ذاتها قضية ذات مغزى هنا. إذ سيتم الحكم على "مشروعية" الهيمنة هنا من خلال الوظائف الإجتماعية التي يؤديها الحكام، أو يزعمون تأديتها للجماعة الخاضعة. ستتّخذ الطبقات المدينية شكل المراتب لا الطبقات بسبب الطبيعة المحلية للإقتصاد ككل. بهذا المعنى لن تكون المراتب طبقات مهيمنة، بل طبقات تلعب أدوارا في بلداتها (أو حتى في أحيائها) وفي الريف المحيط بها، لكنها لن تكون قادرة على مد نفوذها أبعد من تابعيها الأصليين. أما في حالة المَلَكيات أو الإمبراطوريات القائمة، فلن يكون بوسعها أن تمد نفوذها ليشمل كامل رقعة تلك الوحدة السياسية. أما المفاهيم الحديثة مثل المساواة والمجتمع المدني والقيادة الوطنية وبالتالي الديمقراطية فلن تنشأ إلا مع مركزة الفضاء العام واختراع الفضاء القومي.
أما قبل الحداثة، فلابد من التأكيد على إن عدم المساواة الناجمة عن انتماء الفرد وراثيا هي، ولابد أن تكون، المعيار المقبول بهدف الحفاظ على التوازن الدقيق بين مكونات المجتمع المديني، فضلا عن التوازن بين سكان المدن والفلاحين، والأقنان وسادة الأرض. بتعبير آخر، لابد من أن يكون هناك اعتراف عام بأن جماعات معينة تعين لها بحكم سماتها "الطبيعية" المتفوقة أو الدنيا أداء وظائف محددة في المجتمع.
السلطة السياسية من جديد: استثنائية المشرق؟
حاولت أن أبين أن السلطة السياسية ترسّخ جذورها بين أعضاء الجماعة/ المجتمع إن اقتنعت غالبية أعضائها الفاعلين بضرورة وجودها لإعادة إنتاج علاقاتهم الإجتماعية. ولا يعني هذا الإقتناع بالضرورة دعما متحمسا أو قناعة بأن النظام السياسي القائم هو الأمثل. إذ ينطوي الأمر على تركيبة من الحسابات المعقدة يزن الناس عبرها كلفة التغيير الذي ينطوي عليه إقامة نظام بديل والفوائد التي سيجنوها منه. وتتفاوت كلفة الحماية وضمان إعادة إنتاج العلاقات الإجتماعية للبشر، أي مقادير الفائض التي تنتزعها السلطة السياسية من رعاياها، حسب المخاطر التي يعتقد الناس أنهم يواجهونها والحدود القصوى للإنتزاع التي تدفع الناس، إن تم تجاوزها، إلى البحث عن بدائل للحماية أقل كلفة، والرفاه الذي تحققه الجماعة/ المجتمع في ظل السلطة الحامية.
حين أكدنا على استناد السلطة السياسية في أي مجتمع على عمودين هما العنف الجسدي والإذعان، لاحظنا أن الإذعان هو من يلعب الدور الحاسم على الدوام. ولايعني هذا قط إن العنف الجسدي لعب ويلعب أدوارا ثانوية في فرض وإدامة مختلف البنى السياسية عبر التاريخ. ولكن باستثناء حالات تاريخية عابرة، فإن العنف الجسدي والتهديد باللجوء إليه ضد من يخرقون معايير معينة لابد من شرعنته بما يجعل نسبة كبيرة من أعضاء المجتمع (أو الأعضاء الفاعلين فيه على الأقل) يتبنون تلك المعايير ويعتبرونها معاييرهم الخاصة بهذا القدر أو ذاك، أي إنها المعايير التي وجدت للحفاظ عليهم والإرتقاء بحياتهم سواء كانوا يرون فيها منزّلة من الله أو مصاغة من قبل البشر وفي ظل ظروف كهذه فقط سيتقبّل الناس استخدام العنف الجسدي (بل حتى القمع الوحشي والجماعي في بعض الأحيان) باعتباره وسيلة لامفر منها لردع من يحاولون خرق "مبادئنا". لكن درجة التسامح مع ممارسة العنف من جانب السلطة ستتفاوت بالطبع وفق الفترة التاريخية وحسب الظروف القائمة. فلاشك أن بؤساء باريس sans- culottes كانوا يعبرون عن فرحهم الحقيقي وهم يتجمعون يوميا لكي يهللوا لتهاوي رؤوس "أعداء الثورة" من المقاصل. ولاشك أن كثيرا من العراقيين استثارتهم مشاهد قتل المتنفذّين من العهد الملكي بعد ثورة 1958. وسواء كان الأمر في فرنسا أو العراق أو عشرات البلدان الأخرى، فإن أفعالا تبدو غير متحضرة ولا مقبولة اليوم لم تكن كذلك قبل بضعة عقود فحسب.
إذ يتماهى الناس مع نظام سياسي- اجتماعي ما، فإنهم ينزعون إلى القبول بممارسة المزيد من العنف تجاه أعداء السلطة اللذين باتوا الآن أعداءهم ولمواجهة ما يعتقدون من مخاطر قد تهدد النظام. وفي الوقت نفسه فإنهم سيبدون مزيدا من الإذعان حين يستولي القادة السياسيون على المزيد والمزيد من السلطة كوسيلة ضرورية لمواجهة ما يعتقدون من مخاطر محدقة تهدد بقاءهم. لكن الشروط المحددة للإذعان تتفاوت وفقا للفترة التاريخية محل البحث. إذ سيتقبل الناس إلحاق أذى ماحق من جانب حاكم يرونه ممثلا لإله مقدس أو رمزا لكينونة دنيوية تقارب التقديس وسيتقبلون التضحية بأنفسهم بوصفهم رعايا مؤمنين، وكل هذه سلطات لايمكن لحكام آخرين أن يحلموا بامتلاكها.
يمكننا صياغة الإستنتاج أعلاه بطريقة أخرى مفادها أن المعادلة بين الجسدي والمعنوي لا يمكن اعتبارها ثابتة عبر الزمن أو المكان والحضارة محل البحث. ومن خلال هذا المنظور بوسعنا معاينة التضحية بعذراء كل ربيع لنهر النيل تفاديا لغضبه ومحاكم التفتيش في إسبانيا للحفاظ على مسيحيتها ووحشية النازيين لمواجهة "المؤامرات المهددة للعرق الآري" ودموية الميليشيات المتصارعة في الحرب الأهلية اللبنانية ل"حماية طائفة من خطر طائفة أخرى" بوصفها شروطا "ضرورية" لمسيرة تضمن سلاسة الإذعان لسلطات نجحت في امتحان التصدي للمخاطر
. . .
إن واقعة اللجوء إلى استخدام العنف لاتحدد بذاتها شرعية نظام ما لأن المجتمع نفسه هو من ينبغي أن يكون مستعدا للموافقة على استخدام السلطة لجرعات إضافية من العنف متى ما شعر الأول، أو تم تدجين أفكاره، بأنه يواجه مخاطر هائلة أو أعداء ذوي بأس.
يقودنا التحليل أعلاه إلى رفض التعاكس المزعوم بين آليات تطورت أوربا من خلالها وأخرى تخلف عبرها العالم الثالث (والمشرق في حالتنا). تصاغ هذه الإشكالية في الغالب من خلال طرح مقولتين متعاكستين: السلطة مقابل الثروة. وبموجب هذه الإطروحة الفجة التي لاقت وتلاقي قبولا واسعا لسوء الحظ ولدت الطبقات الإجتماعية في أوربا عبر "الإقتصاد" ثم فرضت الطبقات الأقوى مصالحها على المجتمع بالتحكم في السلطة، في حين يتم الزعم بأن العكس هو ما حصل في المشرق، أي إن السلطة هي من يخلق الثروة. ولقد حاولت أن ابين أعلاه بأن من الخطأ معارضة مقولتي السلطة والسياسة أو المقارنة بينهما لسبب بسيط هو أن الثروة هي إحدى تجليات السلطة بالمفهوم الواسع. وسأبين أدناه أن كثيرا من الكتاب المعاصرين بذلوا جهدهم لمعالجة إشكالية زائفة لأن نقطة انطلاقهم كانت فرضية لاتستند إلى أساس مشتقة مباشرة من الطريقة الخاطئة في وضع السياسة في مقابل الإقتصاد. يتمثل الخطـأ الأول في أن مساواة السلطة بالقمع الجسدي يلغي بضربة واحدة الحاجة إلى القيام بمهمة شاقة هي تحليل السبل التي تتمفصل فيها السلطة مع المخاوف ومصادر القلق الحقيقية أو المزعومة التي يشعر الناس بها، مما يولد سبلا مختلفة من الإذعان لها. أما الخطأ الثاني فيتجاهل (إن لم نقل يجهل) إن الوظائف السياسية والإجتماعية والإقتصادية لاتبدأ بالتمايز إلا بعد سيادة الرأسمالية. أما قبل ذلك فإن الثراء في أعين عامة الناس يمثل دالّة على الخدمات السياسية التي تؤديها جماعة ما للمجتمع مما يؤهلها للحصول على موارد عالية. غير أن دعاة استثائية المشرق يفترضون أن أي نظام لاتكون فيه علاقات الإنتاج قائمة على السوق حصريا هو نظام إما أن يكون غير عقلاني أو قائم على القسر.
. . .
حين يتم تفسير نشوء علاقات الملكية ولاسيما علاقات ماقبل الرأسمالية عبر ثنائية "إما الدولة أو السوق" فلابد أن يعجز الكاتب عن تناول القضية الكبرى المتعلقة بالإطار التاريخي الأوسع: أين ومتى نشأت الملكية الإقطاعية أو أي شكل آخر للملكية قبل الراسمالية عبر قوى السوق؟ فقد لاحظنا أن "الإعطيات" الأوربية بدأت كمنح من جانب الملك إلى أتباعه الذين تم استيعابهم بشكل متزايد فيما بعد في مراتب "الشرف" (اي تولي المناصب العامة والقضاء). وفي فترة لاحقة لم تعد الأرض تمنح كهبة بل باتت حيازات يشترط في من يتمتع بها أن يقسم اليمين على تقديم خدمة ما بالمقابل.
. . .
في الفترات السابقة للرأسمالية أذعنت الجماعات الزراعية في أوربا والمشرق على السواء لسيطرة الفرسان أو أهل الإبل على الدوام تقريبا. فقد كان هؤلاء يجبروها على دفع أتاوات في مقابل حمايتها. لكن حصيلة هذا التركيب بين المزارعين والمحاربين لم تكن متماثلة في مختلف الأزمان أو بين كل الجماعات، أذ اعتمد ذلك على مستوى التطور التقني وعلاقات الملكية التي سبقته وأهم من ذلك كله على حدة النزاعات الإجتماعية والمساومات بين الحُماة والمَحمِيين وكفاءة المقاومة التي أبداها المزارعون تجاه مضطهديهم الجدد. إن علاقات الإنتاج والملكية الإجتماعية إذن ليست نتاج مخطط مقصود من جانب الطبقة المسيطرة اقتصاديا ولا هي نتاج إرادة من سيتولون مقاليد السلطة السياسية.
هل يتناقض هذا الإستنتاج مع حقيقة أن أعضاء الطبقة الحاكمة يتمتعون بالإمتيازات المادية التي تتحقق لهم بفضل مراكزهم السياسية التي تحوّلهم إلى جزء من الطبقات المالكة؟ وكيف نفسر إن السيطرة على السلطة السياسية كانت ولاتزال عاملا مهما في تسهيل تحول المنتمين القائمين عليها إلى أن يكونوا جزءا من الطبقات الثرية في مجتمع ما؟ أم لعل تلك الظواهر ليست ذات طابع كوني بل هي لاتعدو كونها نتاج سياق مختلف جذريا تميز به العالم الثالث أو العالم العربي/الإسلامي مما يستدعي تحليل التطور الإجتماعي - الإقتصادي والسياسي لهذا الجزء من العالم بشكل مختلف؟
يبدو أن معظم الكتابات عن البنى الإجتماعية وعلاقات السلطة في الشرق الأوسط تتبنى منهجيتين خاطئتين تكمّلان بعضهما البعض. والأمر المؤسف أن بعضا من أهم العقول التي أنتجت أفكارا مبدعة في نقد التفكير الإستشراقي التقليدي لم تتمكن من التخلي كليا عن المنطلقات الأساس لذلك الضرب من التفكير.
المنهجية الخاطئة الأولى ذات طابع وضعي، يحصر تفكيره في النطاق الذاتي، أي إنه لايستخدم أدوات التحليل المعاصرة لتفسير أسباب ممارسة البشر لطقوس ما بل يتعامل مع الرؤى اليومية كمعطى يقود إلى استنتاج تخلف هؤلاء، أو إنه بتعبير آخر يكتفي بوصف الكيفية التي يتصور مجتمع ما تقسيماته ويشرعنها من دون محاولة تفسير الظروف التاريخية التي أنتجت تلك التقسيمات وأسس شرعنتها، أو إلى العملية التي يؤدلج عبرها ذلك المجتمع تقسيماته. وعلينا أن نؤكد من جديد أن أدلجة وشرعنة الإنقسامات الإجتماعية والعلاقات بين البشر ليست بالضرورة أفعالا "زائفة" أو واعية للتلاعب بمقدرات البشر، إنما تمليها شروط الوعي الضرورية لكل عصر.
لقد أنتج الفكر الإستشراقي/ الوضعي التقليدي نموذج الموزاييك لوصف مجتمعاتنا، وهو وصف شديد التشويش والتحيّز الآيديولوجي لبنى وأداء تشكيلات المشرق الإجتماعية إذ يتم تصوير بنى العالم الإسلامي كموزاييك أو كحشد من القبائل والأقليات الدينية والفئات والإتحادات الإجتماعية.
وإذا استثنينا بضعة كتاب من ذوي الدوافع الدعائية الواضحة، فإن علينا القول بأن الكتاب الإستشراقيين/ الوضعيين لم يكونوا مخطئين بالضرورة في وصفهم للتقسيمات القائمة ضمن الفئات الإجتماعية أو المجتمعات بوجه عام. لكن المنهجية الخاطئة تكمن في أنهم لم يروا أن مجتمعات كل تشكيلة قبل راسمالية هي "موزاييك" في الواقع، إن نظرنا إليها من خلال عدسة الحاضر. إن الإكتفاء بواقعة كون تلك البنى متمفصلة بصورة تبدو غير مألوفة لنا اليوم لاينبغي أن يمثل أساسا للإستنتاج بأن نظاما سياسيا ما متسامح أو استبدادي، ولا للقول بأن المجتمع ساكن يفتقر إلى ديناميات تطور اجتماعية داخلية فلابد من تحريكه بواسطة هزات خارجية.
مثل كثيرين من المستشرقين، لايستطيع غب وبوون تخيل وجود صراعات وتراكيب اجتماعية غير تلك المتجلية في الغرب منذ القرن التاسع عشر، أي الصراعات التي تخوضها طبقات متحددة بشكل واضح من خلال تنظيمات محددة بوضوح وتمارس كل منها صراعاتها دفاعا عن تلك القضية أو تلك. فإن غابت تلك التجلّيات ستوضع علامة مساواة بين كل أشكال التراكيب والصراعات الإجتماعية من جهة وبين غياب الطبقات أو الصراعات. أما في حالة المشرق المعاصر فثمة استمرارية متخيلة عبر الزمان بين الدولة العثمانية "المتسمة باستبداد استثنائي مترسخ" والدول التي انحدرت منها. وقد بينت دراسات وضعية كثيرة الزيف الواضح في تصوير الدولة العثمانية بهذا الشكل، إن لم يكن لشئ فلإنها لم تستطع، وما كان بوسعها أن تكون، مركزية بالقدر الذي تريد لنا القولبة الإستشراقية الإقتناع به. فلو تناولنا الأمر في منظوره التاريخي لتبين لنا أن العثمانيين مثل أي من البنى الإمبراطورية التي عاصرتهم اضطروا إلى الحفاظ على توازن دقيق بين الإستقلالية النسبية للمكونات المختلفة للمجتمعات الخاضعة لحكمهم من جهة وبين متطلبات انتزاع أكثر ما يمكن من أتاوات وضخها إلى المركز من جهة أخرى. ولعل العثمانيين كانوا أقل تسامحا تجاه الممارسات الإستقلالية في نواح معينة وأكثر تسامحا من الإمبراطوريات التي عاصرتهم تجاه اليهود والمسيحيين على سبيل المثال. وهنا يكمن الخطأ المنهجي الثاني الذي أسميناه في الفصول السابقة قراءة (أو تفسيرا) مزدوج الخطأ للتاريخ: خطأ في قراءة التاريخ الأوربي من جهة وخطأ في تفسير تشكيلات المشرق، وما يتعلق بالعلاقة بين السلطة والطبقة فيها بشكل خاص.
حاولت أن أبين أن الزعم بوجود تفارق في علاقة السياسة والسلطة في أوربا والمشرق في الفترات السابقة للرأسمالية لا يستند إلى أي أساس علمي لأن السياسة والإقتصاد غير قابلين للفصل في كلا الحالتين. غير أن ثمة فارقا يكمن في كلف الحماية التي تطلبتها كل من التشكيلتين، سواء كانت تلك حماية من الفيضانات أو من أخطار البدو (النورمان والتيوتون كما هو حال بدو المشرق). ولكن، كيف نفسر دور الدولة أثناء الإنتقال إلى الرأسمالية في كلا الحالتين؟
. . .
تنطوي الصياغات [عن السلطة المولّدة للثروة في المشرق الثروة] على مزيج مثالي يجمع المنهجيتين الخاطئتين: الوضعية واللاتاريخية. إذ أن نقطة انطلاقها هي الوعي اليومي، أي مايراه الناس مزية فعلية "الثروة هي مكافأة القوي لامصدر سلطته". ولكن ما الشكل الذي ستتخذه الثروة في أيدي "القوي"؟ هل ستكون ضيعة إقطاعية، أم مصنعا أم مصرفا؟ وما الشكل المحدد الذي تتخذه السلطة في أطوار مختلفة؟ هل ستكون سلطة قيصر عسكرية، أم سلطة مسؤول منتخب من الشعب؟ تتحدد الإجابات على تلك الأسئلة من خلال عمليات تاريخية لايقرر حصيلتها الوعي اليومي ولا أكثر الإرادات السياسية عزما.
أوصلتنا التحليلات أعلاه إلى الإستنتاج بأن الإرادة السياسية والسلطة مشروطتان بالفعل بالبنى الإجتماعية في "الأماكن الإخرى" لا في الشرق الأوسط "الإستثنائي، وهو زعم جدي يتطلب تفحصا دقيقا لأنه يمثل جوهر إطروحات الشرق الأوسط الإستثنائي الشائعة التي يتبناها كثير من الكتاب المرموقين جزئيا أو كليا.
تنطوي هذه الصياغات على مزيج من ثلاث منهجيات خاطئة على الأقل (بالإضافة إلى ما اشرنا إليه أعلاه)، سأحاول تبيانها هنا:
1. ينتج الخطأ المنهجي الأول عن فهم خاطئ لدورة حياة التشكيلات الإجتماعية بوجه عام. فالأساس النظري الذي تقوم عليه تلك الإطروحات هو أن التشكيلات الإجتماعية الرأسمالية وغير الرأسمالية تتميز بالسمات والخصائص ذاتها طوال فترة ديمومتها. فإن لوحظ أن الرأسمالية اليوم تدار من قبل الرأسماليين وإن السياسة تجسيد لصراعات اجتماعية شفافة نسبيا فإن تلك المنهجية الخاطئة تشتق مجموعة كاملة من السمات الثابتة وغير القابلة للتغيير من تلك اللحظة المحددة من دورة حياة التشكيلة الإجتماعية الراسمالية.
ولكن كيف سيبدو الأمر إن تفحصنا المصالح "المادية" التي حفّزت قيام "سلطة الإرهاب" في فرنسا عام 1794؟ وكيف نحلل منظور الباريسيين إلى العلاقة بين السلطة والثروة وهم يرون أن الثروة والنفوذ الإقتصادي لم ينجيا المتمتعين بها من مواجهة مصيرهم البائس على المقاصل؟ .... هل سيستنتج الباحث المعاصر وهو يراقب الفلاحين الذين شكلوا جيش كرومويل "النموذجي" الذي قام بالثورة في إنكلترا وكرومويل نفسه الذي كان فلاحا ميسورا (جنتلمان، كما كان يطلق على هؤلاء)، والأفراد المذرّرين من عوام باريس الذين اغتنوا بفضل الثروات بأن هؤلاء جميعا استولوا على سلطة الدولة أولا ثم بنوا سطوتهم الإقتصادية فيما بعد وليس العكس؟
ما أردت إبرازه هنا هو أن تبادل الأدوار بين المستويات المختلفة: الآيديولوجية والسياسية والإقتصادية لأي تشكيلة اجتماعية ليس معطى بشكل ثابت ودائمي في الزمان والمكان، من هنا علينا التمييز بشكل صارم بين فترة نضوج تلك التشكيلة وفترة تفتحها. إذ تبدو الآلية المنظّمة في الحالة الأولى كما لو كانت تعمل بشكل تلقائي، فقد فرض النظام شرعيته على غالبية السكان، وباتت المعايير التي يسير عليها تبدو هي المعايير "الطبيعية" والأبدية. أما في مراحل تشكل النظام فإن تلك الآليات والمعايير أبعد ما تكون عن الرسوخ. من هنا تقوم الثورات التي هي بالتعريف أفعال عنف جماعي ضد مجموعات كبيرة من السكان ممن يرفضون الإنصياع إلى تلك المعايير الجديدة. وهنا أيضا علينا التأكيد بأن الفترات الثورية تتسم بتسييس معظم جوانب الحياة.
ولكي نتقبّل الإستنتاج القائل بأن درجة التسييس العالية في الشرق الأوسط المعاصر ليست إلا نتاجا وسمة للسياق التاريخي الإنتقالي الذي تمر به مجتمعاته، علينا أن نتقبل المقولة الملازمة وهي أن رأسمالية الدولة (أو أي تسمية أخرى يتبنى المرء لوصف حقبة النظم شديدة المركزية) هي تشكيلة أنتقالية في جوهرها وليست تشكيلة مستقلة ذات آليات تنظمها ذاتيا بغض النظر عن نوايا القادة. ولكي نتقبل هذه المقولة أيضا علينا أن نرفض بشكل قاطع توصيف التشكيلة التي قامت في ظل محمد علي في مصر، أو حتى تشكيلات المشرق خلال الأربعينات بالرأسمالية. فمن دون ذلك لن يعود بوسعنا سوى التسليم بحتمية التفسير الإستشراقي عن الإستبداد الأبدي القائم على العنف المحض في المشرق. وهو ما يمكن دحضه ببساطة حين نتذكر أن فترة نضوج نظام المحاصصة الزراعية (لا الرأسمالية) خلال الثلاثينات والأربعينات عرفت سيادة البرلمانات والأحزاب السياسية وكبار ملاك الأرض وأعيان المدن في المشرق مع كل ما صاحبها من مظاهر "لعب الثروة والقدرة المالية دورا أساسا في تكوين السلطة العربية."
2. تنتج المنهجية الخاطئة الثانية مباشرة عن الأولى ويمكن تلخيصها بالفهم الأداتي الفج للعلاقة بين الطبقات والسلطة السياسية.
. . .
فلو قال كاتب معاصر أن المصالح الرأسمالية تسيطر على آلة الدولة في فرنسا أو الولايات المتحدة فإن هذا لن يثير استغراب الكثيرين إن لم يكن لشئ فلأن قولا كهذا شديد التعميم لدرجة لايتيح إجراء نقاش مثمر حوله. لكن قلة قليلة، إن وجدت، كانت ستقبل بوصف كهذا للولايات المتحدة عام نيلها الإستقلال في 1776 أو فرنسا عام ثورة 1789. ذلك أن لحظات التحول التاريخية تلك مثلت في أعين أنصارها تحقيقا للإستقلال وإقامة لمجتمعات الحرية والأخاء والمساواة، لا تسييدا لرأس المال. أما خصوم التحول الثوري فلم يروا الأمر "سيطرة للراسماليين على سلطة الدولة" بل سيطرة رعاع هائجين يفتقدون الحس العقلاني. وتصح هذه المقارنة/ المفارقة على النظرة إلى الدولة كذلك. فأنصار الثورة رأوا فيها ماكنة عقلانية مستقلة تعمل لمصلحة الأمة، فيما اعتبرها الخصوم طاغية تعمل بشكل عشوائي.
في كلتا الحالتين ما كان بالوسع اشتقاق محتوى طبقي للدولة الناشئة بشكل مسبق، لسبب بسيط هو أن الطبقة الرأسمالية لم تتماسك كطبقة اجتماعية بعد. وحين تماسكت بعد حين، لم ينظر المحللون إلى الأمر ك"انحراف مزعوم ولّد برجوازيات بيروقراطية وطفيلية" أنشأتها الدولة كما تقول التحليلات السائدة عن المشرق. فمع أن الدولة الفرنسية الثورية والدول التي اقامتها النظم الثورية المشرقية كانت ذات مظهر مستقل، إلا أنها عبّرت عن تطلعات البعض وأثارت عداء آخرين. وبهذا المعنى، لابالمعنى الأداتي التبسيطي يمكن للمرء تفهّم المحتوى الطبقي للثورات.
.....
وعلينا أن نشير من جديد إلى أن القبول بهذا الإستنتاج يتطلب رفض الصياغة الفجة التي تتخيل أن الطبقة الرأسمالية تتمثل في أولئك التجار والمصرفيين الذي كانوا جزءا لايتجزأ من التشكيلات قبل الرأسمالية. فلو ساوينا بين الطبقة الرأسمالية وبين تلك الفئات فسنتوصل إلى استنتاج مضحك يعتبر أن الثورة الفرنسية كانت معادية للرأسمالية مثل الإدعاء بأن ثورات المشرق كانت كذلك. لقد قامت ثورات المشرق بتأميم ممتلكات بعض تلك الفئات، أما الثورة الفرنسية فقد أعدمتهم.
3. ونأتي أخيرا إلى الخطأ المنهجي الثالث في أطروحة استثنائية الدولة المشرقية، وهو الخلط بين أنماط الإنتاج من جهة وبين مواقع الأفراد ضمن نمط الإنتاج.
لايتم تصنيع الطبقات ولا أنماط الإنتاج. فلو وافقنا على أن البريطانيين أو الفرنسيين "خلقوا" الطبقات في منطقتنا، فإن علينا القبول بأن الإمبريالية هي ذات تمتلك إرادة، لا علاقة تعتمد حصيلتها على علاقات القوة بين طرفين. ولو قبلنا بإطروحة الإمبريالية ككيان ذي إرادة فلن يكون بوسعنا فهم الأسباب التي جعلت استعمار المقاطعات التي توحدت تحت اسم الولايات المتحدة الأمريكية أو أستراليا يقود إلى نشوء الرأسمالية في حين أدى استعمار بينين في أفريقيا إلى تعزيز العبودية واستعمار مصر إلى ترسيخ نظام قبل رأسمالي. فمصالح الإستعمار في إخضاع أقاليم أجنبية وراءها هدف واحد بكل بساطة هو تعظيم المكاسب السياسية والإقتصادية. لكن حصيلة هذا السعي الإستعماري قد تكون ازدهار المزارعين المستقلين أو الرأسماليين الصناعيين أو الشيوخ المتَعَيّشين على نظام المحاصصة لأن تلك الحصيلة لاتعتمد على ما "يريد" الإستعمار بل على مستوى تطور التشكيلة الإجتماعية التي تعرضت للغزو. ويصح هذا كذلك على من سيتحكم بالسلطة السياسية فقد ينتهي الأمر إلى سلطة طغم عسكرية أو إصلاحيين ثوريين وغير ذلك من أشكال الحكم.
غير أن قولنا بأن السلطة السياسية لاتخلق أنماط إنتاج أو أشكال تنظيم إجتماعي لايقلل قط من دورها الفاعل في تشكيل العلاقات الإجتماعية الإقتصادية. فقد كانت السلطة السياسية في أوربا كما في المشرق ذات دور حاسم في تعيين مواقع الأفراد في التنظيم الإجتماعي القائم أو الصاعد لكنها لم "تخلق" الطبقات أو أنماط الإنتاج.
تم توطين ومفصلة الأنماط الجديدة للنقل والتجارة واساليب الحروب وأدواتها والتحكم بالتكنولوجيا في مجتمعات مختلفة ومن قبل قطاعات مختلفة في تلك المجتمعات. وجرى ذلك بطرق مختلفة كذلك وكانت النتيجة الغالبة في المشرق ترسيخ نظام المحاصصة (المزارعة) قبل الرأسمالي الذي لم يقرر العثمانيون أو البريطانيون أو القادة المحليون آليات عمله ولا أشكالها. لكن السلطة السياسية من عثمانيين أو بريطانيين أو قادة محليين لعبوا دوراً حاسماً في تقرير من سيكون ملّاكاً للأرض ومن سيحرم من ملكيتها.
وسيقود الخلط بين هاتين العمليتين اللتين تبدوان متشابهتين، أي بين نشوء علاقات اجتماعية جديدة من جهة والمواقع المهيمنة والخاضعة التي سيحتلها الأفراد ضمن بنية العلاقات الإجتماعية الناشئة من جهة أخرى إلى عدم تفهم آليات السلطة في اللحظات الإنتقالية إذ سنتوصل إلى الإستنتاج الخاطئ بأن التدخل السياسي حالة شاذة يتميز بها الشرق الأوسط.
......
لنختتم بالتأكيد على استحالة تفهم عمليات معقدة مثل ترسّخ الطبقات والتشكيلات خلال فترات العبور إلى الحداثة باستخدام ثنائيات تفتقر إلى القيمة التحليلية تضع الدولة مقابل الطبقات، أو تطبق معايير ومقولات لاتصح إلا في حالة بنى تشكيلات ناضجة ومنتظمة.
فقد حاولت أن أبين في هذا الفصل إن الدولة والطبقة ليستا مقولتين متوازيتين ولاهما أدوات مشيّئة. إذ أن كليهما يمر بتغيرات في فترات التحوّل. ولايمكن التكهن بنتائجها باستخدام تأكيدات تبسيطية تتناول أحلام ونوايا القادة السياسيين.